مقالات وبحوث مميزة

 

 

مَسألةُ التمسُّحِ بقَبْر النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وتقبيلِه( [1] )
 

علوي بن عبدالقادر السَّقَّاف

المشرف العام على مؤسَّسة الدرر السَّنيَّة
 

الحمدُ لله حمْدَ الشاكرين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على خاتَمِ الأنبياء والمُرسَلين، نبيِّنا وسيِّدنا محمَّد بن عبد اللهِ وعلى آله وصحْبِه أجمَعين، ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين.

أمَّا بعدُ:

فلا يَزالُ أصحابُ الأهواء بين فَينةٍ وأخرى يُثيرون الشُّكوكَ والشُّبهاتِ في أمورٍ مُسلَّمةٍ من دِينِ الله عزَّ وجلَّ، كمَسألة الاستغاثةِ بغير اللهِ، ومسألةِ التوسُّل بالأنبياء والصالحين، والتبرُّك بالقُبور وغيرها؛ تارةً بإيرادِ آثارٍ ضَعيفةٍ ومَوضوعةٍ، وتارةً بنقلِ أقوالٍ لكبارِ أئمَّة السَّلَف وعُلمائهم، إمَّا شاذَّة، أو فُهِمَت على غيرِ مُرادها؛ وذلك لزَعزعةِ عَقائدِ المسلمين، أو لضَربِ أقوالِ عُلمائِهم بَعضِها ببعضٍ، وزَعزعةِ ثِقتِهم فيهم. ومن هذه المسائلِ التي تُثار بين وقتٍ وآخرَ: مسألةُ (التمسُّح بقَبر النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وتَقبيله والتبَرُّك به)، وممَّا أُثير حولَه الجَدلُ مُؤخَّرًا: قولُ عبدِ اللهِ ابن الإمامِ أحمدَ بنِ حنبل: (سألتُه -يعني: أباه- عن الرَّجُلِ يمَسُّ مِنبرَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ويتبرُّك بمَسِّه، ويُقبِّلُه، ويَفعل بالقَبر مِثلَ ذلك أو نحوَ هذا؛ يُريد بذلك التقرُّبَ إلى اللهِ جلَّ وعزَّ؟! فقال: لا بأسَ بذلك).

 

وقبل تَفنيدِ هذا النَّقل أتساءلُ:
هل ناقِلُ هذا الكلامِ عن الإمامِ أحمدَ يَنقُلُه مؤيِّدًا له، مُعتقِدًا جوازَ التمسُّح بالقبر وتقبيلِه تقربًا إلى الله عزَّ وجلَّ؟!

أمْ يَنقُلُه ليتحدَّى أتباعَ الإمام أحمدَ -الذين يُحَرِّمون التمسُّحَ بالقبر وتقبيلَه- أن يُفَسِّروا كلامَه، ويُوجِّهُوه؟!، أم يَنقُلُه تَهكُّمًا بهم؟!

وإنَّه -والله- لَمُؤسِفٌ جدًّا أن تُفقِدَ الخصومةُ طالبَ العِلمِ حِرصَه على حِمايةِ جَنابِ التوحيد؛ فمن أجل التهكُّم والسُّخرية مِن شَخصٍ، أو طائفةٍ يَتبنَّى قولًا بِدْعيًّا باتِّفاقِ العُلماءِ ، كمَسألةِ التمسُّح بالقَبرِ وتقبيلِه، أو على الأقل يَنقُلُ كلامًا لإمامٍ مِن أئمَّة أهل السنة يُضَلِّل به المسلمين!!

ولأجْل ألَّا يكونَ الدِّفاعُ عن الإمام أحمدَ مُقدَّمًا على حِمايةِ جَناب التوحيد من البِدَع ووسائل الشِّرك؛ سأقدِّمُ الحديثَ عن المسألةِ نفسِها، وأقوال العُلماء فيها، ثم أُعَرِّجُ على مدَى صِحَّةِ نِسبة هذا القولِ للإمامِ أحمدَ -رحمه الله.
 

المسألة الأولى: بيانُ بُطلان جواز التمسُّح بقَبرِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وتَقبيلِه
 

أولًا: الأدلَّةُ

يَكفي للدَّلالةِ على بُطلان جواز هذا الفِعل: أنَّه لم يَرِدْ فيه حديثٌ واحدٌ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وفاعِلُه إنَّما يتقرَّبُ به إلى اللهِ عزَّ وجلَّ؛ فهو مِن المُحدَثاتِ التي قال عنها رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فيما روَتْه عنه عائشةُ رضي الله عنها: ((مَن أَحْدَثَ في أمْرِنا هذا ما ليس فيه، فهو رَدٌّ))( [2])، وفي رواية لمسلمٍ: ((مَن عَمِلَ عَمَلًا ليس عليه أَمْرُنا، فهو رَدٌّ)( [3]).

لا شَكَّ أنَّ هذا الفِعلَ مِن تَعظيم القبور، وقد نَهى رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن ذلك، فقال: ((لَعْنةُ اللهِ على اليَهودِ والنَّصارى؛ اتَّخَذوا قُبورَ أنبيائِهم مَساجِدَ))( [4])، وقال -كما في الحديثِ الحَسنِ-: (لا تَجْعَلوا قَبري عِيدًا، وصَلُّوا عليَّ؛ فإنَّ صَلاتَكم تبلُغُني حيثُ ما كنتُم)( [5]).

لم يثبُت عن صَحابيٍّ واحدٍ أنه كان يتبَرَّكُ بالتمسُّح بقبرِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أو تَقبيلِه -رغمَ حُبِّهم الشديدِ له، وتبرُّكِهم به في حَياتِه بجَسَدِه، وما يخرُجُ منه مِن عَرَقٍ وغيرِه- وبآثارِه بعدَ مماتِه، وهذا كلُّه ثابتٌ في أحاديثَ وآثارٍ صحيحةٍ، ولو كان التبرُّك بالتَّمسُّحِ بالقَبرِ من جِنسِ هذا، لفَعلوه بعد مماتِه.

وهذا الإمامُ البخاريُّ في صحيحِه يقولُ: (باب: ما ذُكِرَ من دِرعِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وعصاه، وسَيفِه وقدَحِه، وخاتَمِه، وما استَعمَلَ الخُلفاءُ بعدَه من ذلك ممَّا لم يُذكَر قِسمتُه، ومِن شَعَره، ونَعْلِه، وآنيتِه ممَّا يَتبَرُّك أصحابُه وغيرُهم بعدَ وفاتِه).

وفي صحيحِ مُسلم: (باب: طِيبُ رائحةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ولِينُ مَسِّه والتبرُّك بمسحِه).

وباب: (طِيبُ عَرَقِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والتبرُّك به).

أين قَبرُه؟ وأين حُجرتُه؟ وأين الحائطُ؟!

ثبَت عن ابنِ عُمرَ رضِي اللهُ عنهما بإسنادٍ صحيحٍ، أنه: «كان يَكرَهُ مَسَّ قَبرِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ»( [6]).

ثانيًا: أقوالُ العُلماء

بُطلان جواز هذا الفِعلِ ممَّا نُقِل فيه اتِّفاقُ عُلماءِ الأُمَّةِ عليه، وسأنقُلُ هنا بعضَ أقوال عُلماء وأتباعِ المذاهب الأربعةِ، ممَّن منَعوا ذلك ونهُوا عنه وعدَّه بعضُهم من البِدَعِ، بل مِن عادات اليهودِ والنَّصارى.
 

ما نُقل عن الإمامِ مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ، واتِّفاق السَّلَفِ على ذلك:

  • قال الشيخ خليل المالكيُّ (ت: 776هـ): (روى ابنُ وهبٍ في المختصَرِ قال: سُئِلَ مالكٌ: من أين يقِفُ من أراد التَّسليمَ؟ فقال: مِن عندِ الزاويةِ التي تلي القِبلةَ مِمَّا يلي المِنبرَ، ويَستقبِلُ القبلةَ، ولا أحِبُّ أن يمسَّ القبرَ بيَدِه)([7]). 
  • وقال الإمامُ النوويُّ (ت: 676هـ): (قالوا: ويُكرَهُ مَسحُه باليدِ وتَقبيلُه، بل الأدبُ أن يُبعَدَ منه كما يُبعَدُ منه لو حَضَره في حياتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، هذا هو الصوابُ الذي قاله العلماءُ وأطبقوا عليه)( [9]).
  • وقال شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميَّة (ت: 728هـ): (لا يُسَنُّ باتِّفاقِ الأئمَّة: أن يُقَبِّلَ الرَّجُلُ أو يستَلِمَ رُكنَيِ البيت -اللَّذين يَليانِ الحِجْرَ- ولا جُدرانَ البيتِ، ولا مَقامَ إبراهيم، ولا صخرةَ بيت المَقدِس، ولا قَبْرَ أحدٍ مِن الأنبياء والصالحين)( [10]).
  • وقال الشريفُ السَّمْهوديُّ الشافعيُّ (ت: 911هـ): (قال الأَقشَهْريُّ: قال الزَّعفرانيُّ في كتابه: وضعُ اليد على القَبرِ ومَسُّه وتقبيلُه: مِن البِدَعِ التي تُنكَرُ شرعًا، ورُوِيَ أنَّ أنسَ بنَ مالكٍ رضِي اللهُ عنه رأَى رجُلًا وضَع يدَه على قبرِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فنهاه، وقال: (ما كنَّا نَعرِف هذا على عَهدِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقد أنكره مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ أشدَّ الإنكارِ)( [11]).
     
  • وقال الشيخُ مرعي بن يوسف الحنبليُّ (ت: 1033هـ): (أمَّا تَقبيلُ القبورِ والتمَسُّحُ بها، فهو بِدعةٌ باتِّفاق السَّلف؛ فيشَدَّدُ النكيرُ على مَن يفعل ذلك، ممَّن تَزيَّا بزيِّ أهل العِلم؛ خوفَ الافتِتان به، والاقتداءِ بفِعلِه)( [12]).
     
  • وقال العَلَّامة المُعَلِّميُّ اليمانيُّ (ت:1386هـ): (عُلماءُ الأُمَّة سَلَفًا وخَلَفًا مُجمِعون على أنَّ التبرُّك بالقُبور، بالاستلامِ والتمسُّح والتقبيل ووضعِ العينينِ ونحوه؛ كلُّه مُحادَّةٌ للهِ ورسولِه، وخروجٌ عن سواءِ سَبيلِه؛ فالعلماء بين مُكفِّرٍ ومُفسِّق. ولا يصِحُّ قياسُ قبرِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّمَ على آثارِه؛ لأنَّ القبورَ -ولا سيَّما قُبورُ الأنبياء والصالحين- مَظِنَّةُ افتِتان الناسِ وضلالِهم) [13]).

ما نُقل عن أتْباع المذاهب الأربعةِ:

  • قال أبو البقاء محمَّد الضياء المكيُّ الحنفيُّ (ت: 854هـ): (ليس مِن السُّنة أن يَمَسَّ الجدارَ أو يُقبِّلَه، بل الوقوفُ من البُعدِ أقرَبُ إلى الاحترامِ. ومن الآدابِ: ألَّا يَرفعَ صوتَه بالتسليم، ولا يَمسَّ القبرَ بيدِه، ولا يَقِفَ عندَ القبرِ طويلًا)( [14]).
     
  • وقال قطبُ الدِّين النهرواني الحنفيُّ (ت: 990هـ): (ليس مِن السُّنَّةِ أن يمسَّ الجدار أو يقبِّلَه) [15]).
     
  • وقال مُلا علي القاري الحَنفيُّ (ت: 1014هـ) في مناسكه: (قوله: "ولا يَمسّ عند الزِّيارة الجِدارَ"، أي: لأنَّه خِلافُ الأدبِ في مقام الوقار، وكذا لا يُقَبِّله؛ لأنَّ الاستلامَ والقُبلةَ من خَواصِّ بعض أركانِ الكعبةِ)( [16]).
     
  • وقال الأصوليُّ أبو بكر الطُّرْطُوشيُّ المالكيُّ (ت: 520هـ): (ولا يَتمسَّح بقبرِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولا يَمْسَح كذلك المِنبرَ)( [17]).
     
  • وقال الفقيه ابنُ الحاج المالكيُّ (ت: 737هـ): (فترَى مَن لا عِلمَ عنده يطوفُ بالقبرِ الشريفِ كما يطوفُ بالكعبةِ الحرامِ، ويتمسَّحُ به، ويُقَبِّله، ويُلقون عليه مَناديلَهم وثيابَهم؛ يَقصِدون به التبَرُّك، وذلك كلُّه من البِدعِ؛ لأنَّ التبركَ إنما يكون بالاتِّباعِ له عليه الصَّلاةُ والسَّلام، وما كان سَببُ عبادة الجاهلية للأصنام إلَّا مِن هذا الباب)( [18]).
     
  • وقال الشيخ خليل المالكيُّ (ت: 776هـ): (ولْيَحذرْ ممَّا يفعلُه بعضُهم من طوافِه بقبره -عليه الصَّلاة والسَّلام- وكذلك أيضًا: تمسُّحهم بالبِناء، ويُلقون عليه مناديلَهم وثيابهم، وذلك كلُّه من البِدَع؛ لأنَّ التبركَ إنما يكون بالاتِّباع له -عليه الصلاة والسلام- وما كانتْ عِبادةُ الجاهلية الأصنامَ إلا مِن هذا الباب) [19]).
     
  • وقال الإمام الغزاليُّ الشافعيُّ (ت: 505هـ): (ليس مِن السُّنةِ أنْ يَمسَّ الجدارَ، ولا أن يُقَبِّله، بل الوقوفُ مِن بُعد أقربُ للاحترامِ)( [20]).
     
  • ونَقل الفقيه أبو شامة المقدسيُّ الشافعيُّ (ت: 665هـ) عن بدع العامَّة في المسجد النبوي عن الحليمي: (عَن بعض أهل الْعلم أَنه نهى عَن الصاق الْبَطن وَالظّهْر بجدار الْقَبْر ومسحه بِالْيَدِ وَذكر أَن ذَلِك من الْبدع) [21])
     
  • وقال الإمام النوويُّ الشافعيُّ (ت: 676هـ): (قالوا: ويُكرَهُ مسْحُه -أي: قَبْر النبيِّ- باليد وتقبيلُه،....ولا يُغتَر بمخالفةِ كثيرين مِن العوامِّ وفعلِهم ذلك؛ فإنَّ الاقتداءَ والعملَ إنما يكونُ بالأحاديثِ الصحيحةِ وأقوالِ العلماء، ولا يُلتَفَت إلى مُحدَثاتِ العوامِّ وغيرِهم، وجَهالاتِهم،.... ومَن خطَر بباله أنَّ المسحَ باليدِ ونحوه أبلَغُ في البَركة؛ فهو من جَهالتِه وغفلتِه؛ لأنَّ البركةَ إنما هي فيما وافَقَ الشرعَ) [22]).
     
  • وقال تقيُّ الدِّين السبكيُّ الشافعيُّ (ت: 756هـ): (... وإنَّما التمسُّحُ بالقبر وتقبيله، والسجودُ عليه، ونحو ذلك: فإنَّما يَفْعَلُه بَعضُ الجهال، ومَن فعَل ذلك يُنكَر عليه فِعلُه ذلك، ويُعَلَّم آدابَ الزِّيارة...)( [23]).
     
  • وقال السيوطيُّ الشافعيُّ (ت: 911هـ): (ومِن البِدع أيضًا: ... طوافُهم بالقبرِ الشريف، ولا يحلُّ ذلك، وكذلك إلصاقُهم بُطونَهم وظُهورَهم بجدارِ القَبر، وتقبيلُهم إيَّاه بالصُّندوق الذي عند رأسِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومسْحُه باليد؛ وكل ذلك مَنهيٌّ عنه) [24]).
     
  • وقال البُهوتيُّ الحنبليُّ (ت: 1051هـ): (لا يَمسَح قَبرَ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولا حائطَه، ولا يُلصق به صَدْرَه، ولا يُقَبِّله)( [25]).
     
  • ونقَل الشيخُ المؤرِّخُ عبدُ الله بن الغازي المكيُّ الحنفيُّ -المتوفَّى سنة 1365هـ (معاصر)- في كتابه ((إفادة الأنام)) فتوى لعُلماء المدينةِ وقَّع عليها مُفتو المذاهب الأربعة آنذاك، جاء فيها: (وأمَّا التوجُّهُ إلى حُجرة النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عند الدُّعاء؛ فالأولى منْعُه، كما هو معروفٌ من مُعتَبرات كتُبِ المذهب [26])، ولأنَّ أفضلَ الجِهات جِهةُ القِبلة، وأمَّا الطوافُ بها والتمسُّحُ بها وتَقبيلُها، فهو ممنوعٌ مُطلقًا). توقيع: (إبراهيم بري مفتي الحنفية، ومحمد صادق العقبى مفتي المالكية، وزكي برزنجي مفتي الشافعية، وحميد بن الطيب مفتي الحنابلة، وأكثر من عشرة من علماء المدينة المنورة)( [27]).
     

ما نُقل أنَّه مِن عادةِ اليَهود والنَّصارى:

  • قال الغزاليُّ الشافعيُّ (ت: 505هـ): (فإنَّ المسَّ والتقبيلَ للمَشاهِدِ: عادةُ اليهود والنَّصارى)( [28]).
  • وقال عبد القادر الجيلانيُّ (ت: 561هـ): (وإذا زار قبرًا لا يَضَع يدَه عليه، ولا يُقَبِّله؛ فإنَّها عادةُ اليهود)( [29]).
  • وقال عبد الرحمن العِماديُّ النقشبنديُّ (ت: 1051هـ): (يَتجنَّبُ مَسَّ الشِّباك ومسْحَه بيدِه ثُم المسْح على وجْهِه للتبرُّك؛ فإنَّ ذلك من عادة أهلِ الكِتاب، ولم يُنقَل ذلك عن أحدٍ من الأئمَّة المجتهدين، ولا مِن العلماء المعتَمَدين)( [30]).
  • وقال أحمد الطحطاويُّ الحنفيُّ (ت: 1231هـ): (ولا يَمسَّ القبرَ، ولا يُقَبِّله؛ فإنَّه مِن عادةِ أهل الكتاب، ولم يُعهَدِ الاستلامُ إلَّا للحَجَرِ الأسود، والركْنِ اليَماني خاصةً)( [31]).

 

المسألة الثانية: بيانُ شُذوذِ ما نُسِب للإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ مِن أنَّه يُجيز التمسُّحَ بقَبر النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وتقبيلَه

جاء في كِتاب ((العلل ومعرفة الرجال)) (2/492) لعبدِ الله ابن الإمام أحمدَ أنَّه سألَ أباه: (الرَّجُلُ يمسُّ منبرَ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ويتبرُّك بمَسِّه ويُقَبِّله، ويَفعَلُ بالقبرِ مِثلَ ذلك، أو نَحوَ هذا؛ يُريدُ بذلك التقرُّبَ إلى الله جلَّ وعزَّ؟ فقال: لا بأسَ بذلك).

وهذا النَّقل ثابتٌ في الكِتابِ المذكور ولم يُشَكِّك في ثبوته أحدٌ، لكنَّه شاذٌ ومردودٌ مِن أربعةِ أوجُه؛ ليس منها أنَّ الإمامَ أحمدَ لم يُحَرِّر مسألةَ التبرُّك بقبرِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ! فهذا لا يجرؤُ على قَولِه أحدٌ، وأحمدُ إمامُ أهلِ السُّنَّة، وهو أجَلُّ مِن أن يُقالَ عنه: لم يُحرِّرْ مسألةَ التبرك!.

الوجهُ الأوَّل:

أنَّ تلاميذَ الإمامِ أحمدَ غير ابنِه عبدِ الله نقَلوا عنه خِلافَ ذلك؛ منهم أبو بكرٍ الأثرمُ، وهو مِن أجلِّ تلاميذِه، قال: (قلتُ لأبي عبد اللهِ: قَبرُ النبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- يُمسُّ ويُتمسَّحُ به؟ فقال: ما أعرِفُ هذا. قلتُ له: فالمنبرُ؟ قال: أمَّا المنبرُ( [32]) فنَعَمْ؛ قد جاء فيه. قيل لأبي عبدِ الله: إنَّهم يُلصِقون بُطونَهم بجدارِ القَبر! وقيل له: رأيتَ مِن أهلِ العِلمِ مِن أهل المدينةِ لا يَمَسُّون ويقومون ناحيةً فيُسَلِّمون؟ قال أبو عبدِ الله -رحمه الله-: نعم، وهكذا كان ابنُ عُمَرَ يَفعَلُ)( [33]).

بل نقَل أبو الفضْل صالحٌ عن أبيه الإمامِ أحمد خِلافَ ما ذَكره أخُوه عبدُ الله؛ حيثُ قالَ في الذي يَدخُلُ المدينةَ: (ولا يَمسّ الحائطَ، ويَضَع يدَه على الرُّمَّانة( [34]) والموضِعِ الذي جَلَس فيه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولا يُقَبِّل الحائطَ)( [35]).

الوجه الثاني:

أنَّ عبدَ اللهِ نفْسَه نقَل عن أبيه أنَّه سمِع سُفيانَ بنَ عُيَينةَ منَعَ مِن ذلك، ولم يعْترِض عليه، فقال: (حدَّثَني أبي قال: سَمِعتُ أبا زيدٍ حمَّادَ بنَ دَليلٍ قال لسُفيانَ بنِ عُيينةَ: كان أحَدٌ يتمسَّحُ بالقبر؟ قال: لا، ولا يلتَزِمُ القبرَ)( [36]).

الوجه الثالث:

أنَّ الإمامَ أحمد كان لا يرى مَسَّ أركانِ الكعبة إلَّا الحجرَ الأسودَ واليَمَاني، وتوقَّف في حُكمِ تقبيلِ المُصحَفِ، وفيه كلامُ رب العالمين،  فكيف يرى جوازَ التمسُّحِ بالقبر وتقبيلِه؟!

قال إسحاقُ بن منصور الكوسج سائلًا الإمام أحمد: (قلتُ: يستلمُ الأركانَ كُلَّها؟ قال: لا، إلَّا اليماني والحَجَر)( [37])، وقال ابن تيمية: (سُئِل أحمدُ عن تقبيله -يعني المصحفَ- فقال: ما سمعتُ فيه شيئًا)( [38])

الوجه الرابع:

أنَّ أتْباعَ مذهبِ الإمام أحمدَ يَمنعون من التمسُّح بالقبرِ وتَقبيلِه، وهم أعرفُ الناسِ بمَذهبِه، ولا يَكادون يُخالفونه، فَضلًا عن أن يُطبِقوا على مخالفتِه، وهم أعرَفُ الناسِ برِواياته، بل لا تَكاد تجِد أثرًا لرواية عبدالله ابن الإمام أحمد في كُتُبهم..

  • قال ابنُ قدامةَ: (ولا يُستحَبُّ التمسحُ بحائطِ قبرِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ولا تَقبيلُه، قال أحمد: ما أعرفُ هذا؛ قال الأثرمُ: رأيتُ أهلَ العِلمِ مِن أهل المدينةِ لا يَمسُّون قبرَ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ)( [39]).
  • وقال المَرداويُّ: (لا يُستحَبُّ تمسحُه بقبرِه -عليه أفضلُ الصَّلاةِ والسَّلام- على الصَّحيحِ من المذهبِ. قال في المستوعب: بل يُكرَهُ. قال الإمامُ أحمد: أهلُ العِلم كانوا لا يَمسُّونه)( [40]).
  • وقال الحجاويُّ: (ولا يَتمَسَّحُ ( [41]) ولا يَمسُّ قَبرَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولا حائطَه، ولا يُلصِق به صَدْرَه، ولا يُقَبِّله).( [42])

وانظر: ((المبدع في شرح المقنع)) لابن مفلح (2/237)، و((كشاف القناع)) للبهوتي (2/517) وغيرَها العشَراتِ من كُتب المذْهب( [43]).

وكُلُّ مَن خَبَر المذْهبَ الحَنبليَّ علِم أنَّ هؤلاء من أشْهرِ أئمَّةِ المذْهبِ، وأنَّهم أصحابُ تَحريرٍ وتنقيحٍ وتصْحيحٍ له، وهم أعرَفُ برِواياتِ الإمامِ والترْجِيح بيْنها.

وفي تنكُّبِ أئمَّةِ المذهبِ عن هذه الروايةِ دَلالةٌ على أنَّهم يَرَوْن شُذوذَها وعدَمَ اعتبارِها، وهم أربابُ المذهبِ وأدْرَى الناسِ بمُرادِ إمامِه، والذي يَنبغي لطالِب العِلمِ أنَّه إذا رأى قولًا لإمامٍ مُخالِفًا لبَقيَّةِ أقوالِه أنْ يَطويه ولا يَرويه، ويَرُدّ مُتشابِهَه إلى مُحْكَمِه، وإذا وجَد مِن ذلك شَيئًا فإنَّه يُبادِرُ إلى بيانِ كونِه غيرَ مُعتبَر، وهذا فيه -من جِهةٍ- حِفظٌ لمقامِ الأئمَّة، ومِن جِهةٍ أخرى فيه حِمايةٌ لجَنابِ الشريعةِ والتَّوحيدِ؛ طلبًا لسَلامةِ عَقيدةِ المسلمين مِن الزَّيغِ والانحرافِ.
 

أسألُ اللهَ بمَنِّه وكَرمِه أن يُرِيَنا والمسلِمين جميعًا الحقَّ حقًّا ويَرزُقَنا اتِّباعَه، وأنْ يُرِيَنا الباطِلَ باطلًا ويَرزُقَنا اجتنابَه.

 

( [1])للاستزادة حول هذا الموضوع، يُنظر: كتاب ((بدع القبور)) للشيخ صالح العصيمي، وكتاب ((التذكرة في أحكام المقبرة)) للشيخ عبدالرحمن الشثري، وكتاب ((التعريف ببطلان ما نُسب إلى الإمام أحمد)) للشيخ صادق سليم، وقد استفدت منها -وخاصَّةً الأخير-كثيرًا.

( [2])رواه البخاري ( 2697 )، ومسلم ( 1718 ).

( [3])رواه مسلم ( 1718 ).

( [4])رواه البُخاريُّ (3453)، ومُسْلمٌ (531) من حديث عبدالله بن عباس وعائشة رضي الله عنهم.

( [5])أخرجه أبو داود (2042) واللفظ له، وأحمد (8804) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. 

( [6])أخرجه محمد بن عاصم في ((جزء له)) (28) بإسناد متَّصل، رجاله كلُّهم ثقاتٌ أثبات، فقال: حدَّثَنا أبو أسامة -وهو حماد بن أسامة الكوفي- عن عُبَيد الله -وهو ابنُ عُمر بن حفص- عن نافع -مولى ابن عمر- عن ابن عمر، وهذا إسنادٌ كالشمس.

ورواه من طريقه الذهبي في ((معجم الشيوخ)) (1/45).

وأخرجه البيهقي في ((شعب الإيمان)) (4150) عن عُبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان إذا قدِمَ من سفرٍ بدأ بقَبر النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فصلَّى عليه وسلَّمَ، ودعا له، ولا يمَسُّ القبرَ، ثم يُسلِّم على أبي بكر...

;
( [7])((التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب)) (2/ 101).

( [9])((المجموع شرح المهذب)) (8/275).

( [10])((مجموع الفتاوى)) (27/79).

( [11])((وفاء الوفاء)) (4/ 215).

( [12])((شفاء الصدور في زيارة المشاهد والقبور)) ص (42).

( [13])((آثار الشيخ المعلمي)) (4/255).

( [14])((البحر العميق في مناسك المعتمر والحاج إلى بيت الله العتيق)) (5/2900).

( [15])((تاريخ المدينة)) (ص: 192).

( [16])((مناسك ملا علي القاري)) (ص: 276).

( [17])((الحوادث والبدع)) (ص: 156).

( [18])((المدخل))  (1/ 263).

( [19])((مناسك الحج)) للشيخ خليل (ص: 164).

( [20])((إحياء علوم الدين)) (1/259).

( [21])((الباعث على إنكار البدع والحوادث)) (95)

( [22])((المجموع شرح المهذب)) 8/275.

( [23])((شفاء السقام في زيارة خير الأنام)) (ص: 312).

( [24])((الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع)) (ص185) .

( [25])((بغية الناسك في أحكام المناسك))  (ص: 127).

( [26])كذا بالأصل، ولعل الصواب: المذاهب

( [27])((إفادة الأنام)) (5/135).

( [28])((إحياء علوم الدين)) (1/271).

( [29])((الغنية)) (1/ 91).

( [30])((المستطاع من الزاد لأفقر العباد)) (ص 18).

( [31])((حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح)) (ص 620).

( [32])يعني: قبل احتراقِه. انظر: ((خلاصة الوفا للسمهودي)) (1/455).

( [33])((المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين)) (1/215) لأبي يعلى الفراء (ت: 458)، وانظر: ((المغني لابن قدامة)) (3/479).

( [34])وذلك قبل أن تُحرق. انظر: ((خلاصة الوفا للسمهودي)) (1/455) .

( [35])((مسائل الإمام أحمد بن حنبل رواية ابنه أبي الفضل صالح)) (3/61) .

( [36])((الرد على الإخنائي)) (ص416).

( [37])((مسائل الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه)) (5/ 2328)

( [38])((مختصر الفتاوى المصرية)) (ص 265)

( [39])((المغني)) (5/468).

( [40])((الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف)) (4/53)

( [41])كذا بالأصل، ولعلها: ولا يَمْسَح.

( [42])((الإقناع في فقه الإمام أحمد)) (1/369)

( [43])وقد يشذ حنبليٌّ فيجيزه، والعبرة بكتب المذهب المعتمدة في تحريره.