قراءة ونقد

نهج البلاغة
book
علي بن أبي طالب
عنوان الكتاب: نهج البلاغة
المحقق: محمد عبده
الناشر: دار البلاغة - بيروت
الطبعة: الخامسة
سنة الطبع: 1412هـ
عرض ونقد: القسم العلمي بمؤسسة الدرر السنية
كتاب هذا الشهر هو كتاب (نهج البلاغة ، المنسوب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قام بجمعه الشريف الرضى (406هـ، وقيل بل أخوه المرتضى، وقيل بل اشتركا معًا في وضعه، ولقد كان هذا  الكتاب محل اهتمامٍ وعناية، خاصة عند الشيعة، ومن مظاهر العناية به تقييد العديد من الشروح والتعليقات عليه، بالإضافة إلى ترجمته وتحقيقه والاستدراك على ما فات جامعه إلى غير ذلك، وسنحاول إجمال الكلام عن الكتاب والمآخذ التي أخذت عليه، وإلا فالكلام فيه يطول.
 
أولا العرض:
كتاب ((نهج البلاغة)) اشتمل على مقدمة وثلاثة أقسام.
في المقدمة شرح الشريف الرضي سبب جمعه للكتاب، وقدم تلخيصًا لموضوعات الكتاب، وتسميته.
أما القسم الأول من موضوعات الكتاب، فهو خطب أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وفيه مجموعة من الخطب التي ألقاها، وبلغ عددها (241) خطبة.
القسم الثاني أفرده المؤلف لكتب علي رضي الله عنه، وفيه محاسن الكتب والرسائل التي أرسلها. وبلغ عددها (79) كتابًا.
والقسم الثالث أفرده لحِكَم أمير المؤمنين ومواعظه ووصاياه، وبلغ عددها (480).
 
النقد:
كتاب نهج البلاغة الكلام فيه ليس عن المآخذ التي أُخذت عليه فقط، بل الكلام عن صحة نسبته إلى علي رضي الله عنه ابتداء، وإن كانت المآخذ التي أخذت عليه أحد القرائن في الحكم على الكتاب ونسبته إلى علي رضي الله عنه، ثم نتبع هذه المآخذ ببعض ما اشتمل عليه مما يخالف عقيدة الشيعة.
 
أولا: نسبة الكتاب إلى علي رضي الله عنه
كتاب نهج البلاغة كتاب مطعون في نسبته لعلي رضي الله عنه والأدلة على ذلك كثيرة، منها:
- أن الكتاب جُمع بعد وفاة علي رضي الله عنه بقرابة أربعة قرون، فالشريف الرضى توفي سنة (406هـ)، وأمير المؤمنين علي توفي سنة (40هـ)، وليس هناك إسناد متصل بينه وبين علي رضي الله عنه.
- اشتماله على كثير من المصطلحات التي لم يكن يتداولها الناس في عهد علي رضي الله عنه، وإنما عرفت بعد ذلك كـ (الأين، والكيف)، وكذلك ما فيه من كلمات تجري على ألسنة المتكلمين كـ(المحسوسات، والكل والبعض، والصفات الذاتية، والجسمانيات).
- اشتماله على مذهب المعتزلة في الصفات، والرافضة قد اعتمدوا على كتب المعتزلة في العقليات، ومن ذلك ما جاء في الكتاب منسوبا لعلي رضي الله عنه:  (وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه؛ لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصف الله فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنَّاه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حدَّه، ومن حدَّه فقد عدَّه، ومن قال: فيم؟ فقد ضمنه، ومن قال: علام؟ فقد أخلى منه.
- اشتماله على أشياء يجلُّ قدر الإمام علي عن التفوه بها، مثل سبِّ وتنقص كبار الصحابة، كأبي بكر وعمر ومعاوية وطلحة والزبير وعمرو بن العاص، وهذا خلاف ما عُرف عنه رضوان الله عليه، حتى إنه في كتاب ((النهج)) نفسه ما يخالف ذلك؛ من الثناء على الصحابة كما سيأتي.
- أن فيه من السجع والتنميق والصناعة اللغوية ما لم يعرف في عصر الخلفاء، ومنهم علي رضي الله عنه، وإنما عُرف بعد ذلك، وكذلك التطويل في الكلام فقد ذكر صاحب ((النهج)) عهدَ عليٍّ رضي الله عنه إلى الأشتر في خمس عشرة ورقة، وهذا خلاف المعروف من كلام علي رضي الله عنه وإيجازه .
- أن فيه نسبة ادعاء علم الغيب لعلي رضي الله عنه، فقد جاء فيه أنه قال: (اسألوني قبل أن تفقدوني، فوالذي نفسي بيده، لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فئة تهدي مائة، وتضل مائة- إلا أنبئكم بناعقها، وقائدها، وسائقها، ومناخ ركابها، ومحط رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلًا، ومن يموت منهم موتًا).
- ثم يقال: لماذا يوجد هذا الكم من الخطب في كتب الشيعة دون أن يكون لها ذكر في كتب السنة، ولا حتى في كتب الأدب المعروفة، أو في كتب الغريب التي اهتمت بتفسير الغريب من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وكلام صحابته؟! ولماذا ينفرد علي رضي الله عنه بهذا الكم الكبير من الخطب دون أن يحدث ذلك لغيره من الخلفاء؟!
كل هذا وغيره دفع غير واحد من العلماء إلى عدم تصحيح نسبة الكتاب لعلي رضي الله عنه، كشيخ الإسلام ابن تيمية، والذهبي، وابن حجر، وابن خلكان، والصفدي، وغيرهم من المتقدمين، ومن المعاصرين أيضا كثيرون، حتى جزم أحدهم بأنه لا يصح أن ينسب إلى علي من الكتاب إلا قرابة العشر فقط.
ونكتفي بذكر بعض النقول عن علمين من أعلام أهل السنة المحققين، وهما ابن تيمية والذهبي، في بيان حال هذا الكتاب وكشف حقيقته.
قال ابن تيمية في ((منهاج السنة)): (فأكثر الخطب التي ينقلها صاحب ((نهج البلاغة)) كذبٌ على علي، وعليٌّ أجلُّ وأعلى قدرًا من أن يتكلم بذلك الكلام، ولكن هؤلاء وضعوا أكاذيب وظنوا أنها مدح، فلا هي صدق ولا هي مدح، ومن قال إن كلام علي وغيره من البشر فوق كلام المخلوق- فقد أخطأ، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم فوق كلامه، وكلاهما مخلوق... وأيضًا ؛ فالمعاني الصحيحة التي توجد في كلام علي موجودة في كلام غيره، لكن صاحب ((نهج البلاغة)) وأمثاله أخذوا كثيرًا من كلام الناس فجعلوه من كلام علي، ومنه ما يحكى عن علي أنه تكلم به، ومنه ما هو كلام حق يليق به أن يتكلم به ولكن هو في نفس الأمر من كلام غيره....ولهذا يوجد في كلام ((البيان والتبيين)) للجاحظ وغيره من الكتب كلام منقول عن غير علي، وصاحب ((نهج البلاغة))يجعله عن علي، وهذه الخطب المنقولة في كتاب ((نهج البلاغة)) لو كانت كلها عن علي من كلامه، لكانت موجودة قبل هذا المصنف، منقولة عن علي بالأسانيد وبغيرها، فإذا عرف من له خبرة بالمنقولات أن كثيرًا منها بل أكثرها لا يعرف قبل هذا- علم أن هذا كذب، وإلا فليبيِّن الناقل لها في أي كتاب ذكر ذلك، ومن الذي نقله عن علي، وما إسناده، وإلا فالدعوى المجردة لا يعجز عنها أحد، ومن كان له خبرة بمعرفة طريقة أهل الحديث، ومعرفة الآثار والمنقول بالأسانيد، وتبين صدقها من كذبها؛ علم أن هؤلاء الذين ينقلون مثل هذا عن علي من أبعد الناس عن المنقولات والتمييز بين صدقها وكذبها).
وقال أيضا : (فنقول أولاً: أين إسناد هذا النقل؟ بحيث ينقله ثقة عن ثقة متصلًا إليه، وهذا لا يوجد قط، وإنما يوجد مثل هذا في كتاب ((نهج البلاغة))، وأمثاله، وأهل العلم يعلمون أن أكثر خطب هذا الكتاب مفتراة على علي، ولهذا لا يوجد غالبها في كتاب متقدم، ولا لها إسناد معروف، فهذا الذي نقلها من أين نقلها ؟ولكن هذه الخطب بمنزلة من يدعي أنه علوي، أو عباسي، ولا نعلم أحدًا من سلفه أدعى ذلك قط، ولا ادعى ذلك له فيعلم كذبه، فإن النسب يكون معروفًا من أصله حتى يتصل بفرعه، وكذلك المنقولات لا بد أن تكون ثابتة معروفة عمن نقل عنه، حتى تتصل بنا. فإذا صنف واحد كتابًا ذكر فيه خطبًا كثيرة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ولم يرو أحد منهم تلك الخطب قبله بإسناد معروف- علمنا قطعًا أن ذلك كذب. وفي هذه الخطب أمور كثيرة قد علمنا يقينًا من علي ما يناقضها، ونحن في هذا المقام ليس علينا أن نبين أن هذا كذب بل يكفينا المطالبة بصحة النقل، فإن الله لم يوجب على الخلق أن يصدقوا بما لم يقم دليل على صدقه، بل هذا ممتنع بالاتفاق، لا سيما على القول بامتناع تكليف ما لا يطاق، فإن هذا من أعظم تكليف ما لا يطاق، فكيف يمكن الإنسان أن يثبت ادعاء علي للخلافة بمثل حكاية ذكرت عنه في أثناء المائة الرابعة، لما كثر الكذابون عليه، وصار لهم دولة تقبل منهم ما يقولون، سواء كان صدقًا أو كذبًا، وليس عندهم من يطالبهم بصحة النقل، وهذا الجواب عمدتنا في نفس الأمر، وفيما بيننا وبين الله تعالى).
وقال الإمام الذهبي  في ((ميزان الاعتدال)): (ومن طالع كتابه ((نهج البلاغة))؛ جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين علي، ففيه السب الصراح والحط على أبي بكر وعمر، وفيه من التناقض والأشياء الركيكة، والعبارات التي من له معرفة بنفس القرشيين الصحابة، وبنفس غيرهم ممن بعدهم من المتأخرين، جزم بأن الكتاب أكثره باطل).
وقال في ((سير أعلام النبلاء)): (كتاب ((نهج البلاغة))، المنسوبة ألفاظه إلى الإمام علي رضي الله عنه، ولا أسانيد لذلك، وبعضها باطل، وفيه حق، ولكن فيه موضوعات حاشا الإمام من النطق بها، ولكن أين المنصف؟!).
 
ثانيًا: ما اشتمل عليه الكتاب مما هو حجة على الشيعة
وليت الشيعة إذ اعتمدوا هذا الكتاب أخذوا بكل ما فيه، مما ينقض بعض معتقداتهم، ويزيفها، فكتاب ((النهج)) اشتمل على أشياء تخالف بعض معتقداتهم، ونذكر بعضها على سبيل المثال.
فمثلا يعتقد الشيعة أن عليًّا هو الوصي وأن الصحابة قد غصبوا الخلافة، لذا فهم يسبونهم ويناصبونهم العداء، ولقد جاء في ((النهج)) ما ينقض هذا المعتقد، ومن ذلك قول علي كما في ((نهج البلاغة)) بعد دعوته إلى البيعة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه قال: (دعوني والتمسوا غيري؛ فإنا مستقبلون أمرا له وجوه وألوان، ولا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول ...). إلى أن قال: (وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزيرًا خير لكم مني أميرًا). وقال أيضا مخاطبًا طلحة والزبير: (والله، ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا في الولاية إربة، ولكنكم دعوتموني إليها، وحملتموني عليها).
 
كما تضمن الكتاب ثناء على أبي بكر عمر وعلى عثمان، ومن ذلك قوله لعثمان: (والله، ما أدري ما أقول لك، ما أعرف شيئًا تجهله، ولا أدلك على أمر لا تعرفه، إنك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلى شيء فنخبرك به، ولا خلونا بشيء فنبلغكه، وقد رأيت كما رأينا، وسمعت كما سمعنا، وصحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صحبنا، وما ابن قحافة ولا ابن الخطاب بأولى بعمل الحق منك، وأنت أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشيجة رحم منهما، وقد نلت من صهره ما لم ينالا).
 
بل تضمن الكتاب ثناء علي رضي الله عنه على الصحابة كلهم، فقال كما جاء في ((النهج)): (لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما أرى أحدًا يشبههم منكم، لقد كانوا يصبحون شعثًا غبرًا، قد باتوا سجدًا وقيامًا، ويراوحون بين جباههم، ويقبضون على مثل الجمر من ذكر معادهم، كأن بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم، إذا ذكر الله هملت أعينهم حتى ابتلت جيوبهم، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف؛ خوفًا من العقاب ورجاء للثواب).
 
ونجد في ((النهج)) من كلام علي ما ينفي عصمة الأئمة، فقد جاء فيه عن علي أنه قال:  (فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ، ولا آمن ذلك من فعلي).
 
يبقى أن الكتاب يمكن أن يستفاد منه من الناحية اللغوية والأدبية، فقد كان محل ثناء من بعض الأدباء والكتاب، ولكن لا تجوز نسبته لعلي رضي الله عنه.