مقالات وبحوث مميزة


 

السَّلَفيُّون ليْسوا وحْدَهم

نَقْد المفكِّرين الغربيِّين للنِّظام الدِّيمُقراطي!

 

الشيخ عبدالله الزَّهراني

 

 

يُصِرُّ الخطابُ العلمانيُّ وبعضُ الأصوات في الخِطاب التنويريِّ في السعودية على تصوير الاتجاه المخالِف للديمُقراطية -وخصوصًا الاتجاه السَّلَفي- بأنَّه اتجاهٌ شاذٌّ، مُتخَلِّف، سطحيٌّ في تفكيره، مُخالفٌ لِما هو معلومٌ في العالَمِ المعاصرِ بالضرورة.

ونحن إذا رَجَعنا إلى العالَمِ الغربي نفْسِه فسنجدُ أنَّ عددًا كبيرًا مِن عُلمائه ومُفكِّريه مُعارضون بشكل قاطع للنظام الديمُقراطي.. وقاموا بتوجيه النقدِ إليه، ووجَّهوا إليه اعتراضاتٍ كثيرةً مِن عدَّة جِهاتٍ.
 

والاطلاع على نَقْد المُفكِّرين الغربيِّين للنظام الديمُقراطي مُفيدٌ مِن عِدَّةِ وُجوه:

الوجهُ الأوَّل: أنَّ ذلك يكشِفُ عن أنَّ الخَلَلَ في النظام الديمُقراطي ليس راجعًا إلى مُخالَفته للأُصول الشرعية فقط.. وإنَّما هو راجِعٌ أيضًا إلى بِنْية النظامِ نَفْسِه، وإلى شُروطِه، وتطبيقاتِه المِهنيَّة.

والوجه الثاني: أنَّ الاطِّلاع على ذلك النَّقْد يكشِف أنَّ رَفْضَ الديمُقراطية ليس مَوقِفًا خاصًّا بالسلفيِّين ولا بالإسلاميِّين عُمومًا, وإنَّما هو مَوقفٌ شائعٌ في الأوساط الفكريةِ الغربيةِ والإسلامية.

وقد جمع الدكتور سفر الحوالي قَدْرًا مِن أسماء المُفكِّرين الغربيِّين الرافضين للنظامِ الديمُقراطي في كتابه العَلْمانية، ونَقَل نَقْدَهم ومَواقِفَهم مِن مُؤلَّفاتِهم.. وسأنقُلُ كَلامَه الذي جمع فيه كلامَ المُفكرين الغربيِّين الذين نَقَدوا الديمُقراطية بنَصِّه، حيث يقول:

 ((الناسُ في الغَرْب يَقبَلون الحِوار والنِّقاشَ حَوْلَ أيِّ موضوعٍ ما، عدا موضوع الديمُقراطية، فالديمُقراطية بمبادِئها -كالحُرِّيةِ والمُساواةِ- وحُقوقُها وضماناتُها -كما أسلَفْنا- منطقةٌ مُقدَّسةٌ، لا ينبغي أن تكونَ مَوضِع جدالٍ، وما لها لا تكونُ كذلك وهم لا يعلمون لها بَديلًا إلَّا الديكتاتوريةَ، ذلك الشبحَ الرَّهيبَ؟!
 

ومع ذلك فقد كَثُرت اعتراضاتُ المُفكِّرين على هذا المبدأِ، وانتُقِدَ مِن جوانبَ عديدةٍ، ويتلَخَّصُ نَقْد الكُتَّاب الديمُقراطيِّين للديمُقراطية في أُمورٍ:

1- مُيوعة الاصطلاحِ، وصُعوبة تحديده بدِقَّةٍ عِلْميَّة يُمكن بواسطتِها التمييزُ بَيْنَ الحَقيقة وبيْنَ الادِّعاءِ المُزيَّفِ.

يقول صاحبُ كتابِ نُظُم الحُكْم الحديثة: "كُلُّ مُحاولة تستهدِفُ تحديد الاستعمال الصحيح لاصطلاح الديمُقراطية، مِن شأنِها أنْ تواجِه مَزيدًا مِنَ التعقيداتِ، وليستِ البلادُ التي تُسَمَّى بالديمُقراطية تَقليدًا... هي التي تُظهِرُ المُتناقِضاتِ والعُيوبَ فحَسْبُ؛ بل إنَّ البلادَ الشيوعيةَ في العالَمِ -التي تَعتَنِقُ مَفهومًا سياسيًّا مُخالِفًا تمامًا- تدَّعي بالتأكيدِ ذاته أنَّها ديمُقراطياتٌ شَعبية، وأنَّ انتِسابَ البلادِ الأُخرى إلى الديمُقراطية إنَّما هو مِن قَبيلِ الخِداعِ".

ويقول آرنولد توينبى: "أصبح استِخدامُ اصطلاح الديمُقراطية مُجردَ شِعارٍ مِنَ الدُّخانِ، لإخفاءِ الصراع الحقيقيِّ بَيْنَ مبدَأَيِ الحُريةِ والمُساواةِ".

ويقول رسل عنها: "كانت تَعنى حُكْمَ الأغلبيةِ، مع نَصيبٍ قليلٍ غَيرِ مَحدودِ المَعالِمِ مِنَ الحُرية الشخصية، ثم أصبحت تعني أهدافَ الحِزبِ السياسيِّ الذي يُمثِّل مصالحَ الفُقراءِ على أساسِ أنَّ الفُقراءَ في كُلِّ مكانٍ همُ الأغلبيةُ، وفي المَرحلةِ التاليةِ أصبَحَتْ تُمثِّل أهدافَ زُعماءِ هذا الحِزبِ، وها هي الآنَ في أوروبا الشرقيةِ وجزءٍ كبيرٍ مِن آسيا يُصبح معناها الحُكْمَ المُستَبدَّ لِمَن كانوا يومًا ما نُصراءَ لِلفُقراءِ، والذين أصبحوا يَقصُرون نُصرَتَهم هذه لِلفُقراءِ على إيقاعِ الخَرابِ بالأغنياءِ، إلَّا إنْ كان هؤلاء الأغنياءُ مِنَ الديمُقراطيِّين بالمعنى الجديدِ".

صحيحٌ أنَّ لَفظَ الديمُقراطية يَعني عِندَ إطلاقِه حُكْمَ الشَّعبِ، لكِنَّ الآراءَ تتضارَبُ كثيرًا حَولَ كيفية الحُكْمِ، ونوعيةِ الاقتِراعِ والتمثيلِ، وشُروطِ المُقتَرعين، وتحديدِ الفِئاتِ السياسية.

تَرى الشيوعيةُ أنَّ الدُّولَ الرأسماليةَ ليست ديمُقراطيةً بالمَعنى الصحيحِ؛ لأنَّ الحُكْمَ فيها حقيقةً بيَدِ الطبقةِ الثريةِ، وأنَّ المُصطلَحَ الحقيقيَّ لها هو: (دكتاتورية رَأْسِ المالِ).

وفى الوقتِ نَفْسِه تقول الرأسمالية: إنَّ الدُّوَلَ الشيوعيةَ ليست ديمُقراطيةً؛ لأنَّ كُلَّ سُلطاتِها تنحَصِرُ في قَبضة قليلة واحدة مِنَ الشَّعبِ، وهي الحِزبُ الشيوعيُّ؛ ولذلك لا تُحسَبُ الدُّوَلُ الشيوعيةُ في عِدادِ العالَمِ الحُرِّ.

هذا بالإضافة إلى الانقساماتِ داخِلَ الدُّوَلِ الديمُقراطية اللِّيبرالية.
 

2- الأحزاب المتشاحنة التي لا تُعبِّرُ عن إرادةِ الأُمَّة:

إنَّ الواقعَ المَحسوسَ لَيَنطِقُ بصراحةٍ بأنَّ النظامَ الديمُقراطيَّ يقضي على وَحْدةِ الأُمَّة، ويُفتِّتُها إلى تكَتُّلاتٍ مُتناحرةٍ وأحزابٍ متطاحِنةٍ لأسبابٍ لم تكنْ لِتستَدعيَ التكَتُّلَ والتحزُّبَ، لولا أنَّ النظامَ نَفْسَه يُشجِّع على ذلك ويُهيِّئُه، ومع خُطورةِ هذا التمزُّقِ على الأمةِ؛ فإنَّه يَنبَني عليه أثَرٌ خَطِرٌ بالنسبةِ لتَحقيقِ مصالحِ الشَّعْب.

وذلك أنَّ الدُّوَلَ الديمُقراطيةَ الغربيةَ يوجَدُ بها نوعانِ مِنَ الأنظمةِ:

-نظامُ الحِزبَيْنِ، ونظام الأحزابِ المُتنافِسةِ، ونَدَعُ الكَلامَ حَولَ عُيوبِ النِّظامَيْنِ كِلَيْهما لهارولد لاسكي المُشارِ إليه: "في إنجلترا -مثلًا- إذا اقتَصَر الأمرُ على حِزبَيِ المُحافِظين والعُمَّال، فسوف يُضطَرُّ كثيرٌ مِنَ المُوظَّفين لأنْ يَختاروا بَيْنَ بَديلَيْنِ، ليس بَينَهم وبَيْنَ أحَدِهما تجاوبٌ كاملٌ خَلَّاقٌ، ولهذا السببِ يَنهَضُ الادِّعاءُ بأنَّ نظامَ الأحزابِ المُتعدِّدةِ -الذي يُسمَّى عادةً بنظامِ المَجموعةِ- يتلاءَمُ مع انقِسامِ الرأيِ بصورةٍ أكثرَ فاعليةٍ.

ولكن بناءً على خِبرتِنا بنظامِ المجموعة -كما في فرنسا وحكومة ويمار في ألمانيا- يبدو أنَّه مصحوبٌ دائمًا بعَيبَيْنِ خطيرَيْنِ، ويكمُن أكثرُ هذَيْنِ العيبَيْنِ أهميةً في أنَّ هذا النظامَ عندما يعمل تكون الطريق الوحيدة التي يتحكم بها في السلطة التشريعية هي تنظيم نوعٍ مِنَ الائتِلاف بيْنَ المجموعات... ويكون مِن نتيجة ذلك أن يُستَعاضَ عن تَحمُّلِ المَسؤوليةِ بالمُناوراتِ وأنْ تُصبحَ السياسةُ مُجرَّدةً مِنَ التماسُكِ وسَعةِ الأُفُق...

والعيبُ الثاني الذي يظهر بدرجةٍ مَلحوظةٍ في فرنسا هو أنَّ نظامَ المجموعةِ يميلُ إلى تجميع السلطةِ حوْلَ الأشخاصِ أكثرَ مِن تجميعِها حوْلَ المبادئ".
 

3- إيجاد طبقةٍ ثريةٍ مسيطرةٍ دكتاتوريةٍ:

هذا العيب الخطر ملازم للأنظمة الديمقراطية الغربية، وهو أجلى عُيوبِها وأبرزُها، وبه تتذرع الشيوعية في هجومِها على العالَمِ اللِّيبراليِّ، كما تستغلُّه الأحزابُ اليساريةُ داخِلَ هذه الدُّولِ نَفْسِها.

مِنَ الحقائقِ المُقررةِ عالَميًّا أنَّ المَصالحَ الماديةَ هي الدَّافعُ الوحيدُ، والمُحرِّكُ الرئيسيُّ للعملِ السياسيِّ، وكُلُّ دُوَلِ العالَمِ الديمقراطيِّ لا تُخفي حقيقةَ أنَّها تعملُ جاهدةً لِحمايةِ امتيازاتِها، وضمانِ تفوُّقِها الاقتصاديِّ، وتوفيرِ المجالِ الحيويِّ لِشعبِها، وهذا هو القِناعُ الظاهريُّ الذي تتستَّرُ به إمبراطورياتُ المالِ في هذه الدُّولِ، التي تتحكَّم في السياسةِ الخارجيةِ والداخليةِ مباشرةً، أو بطريقِ الضغطِ على السُّلطةِ الحاكمة.

وفيما يحسَبُ الشَّعبُ أنَّه سيِّدُ نَفْسِه ومُقرِّرُ مصيرَه، تقوم الطبقةُ الرأسماليةُ المُحتكِرةُ بسَنِّ القوانينِ؛ لِـحمايةِ مَصالِـحِها، والزَّجِّ بسياسةِ الدولة فيما يخدُمُ أغراضَها النفعيةَ الخاصةَ.

يقول لاسكى:

إنَّ الدولةَ الديمقراطيةَ تبذلُ الكثيرَ في سبيلِ تحقيقِ المُساواةِ بيْنَ المواطِنين فيما تمنحهم مِن ضماناتٍ، كما تتَّجه أوامرُها القانونيةُ إلى حمايةِ المِلكيةِ القائمةِ للامتيازاتِ أكثَرَ ممَّا تعمل على توسيعِ نطاقِها، فانقِسامُ المُجتمعِ إلى فقراءَ وأغنياءَ يجعل أوامرَ الدولةِ القانونيةِ تعمل لصالحِ الأغنياءِ... إذْ إنَّ نُفوذَهم يُرغِمُ نوَّابَ الدولةِ وذوي السلطةِ فيها على أن يكونَ لرغباتِهم الاعتبارُ الأوَّل.
 

وتعبِّرُ الدولةُ عن رغباتِ أولئك الذين يسيطرون على النظامِ الاقتصاديِّ، فالنظامُ القانونيُّ بمثابةِ قِناعٍ تختفي وراءَه مصلحةٌ اقتصاديةٌ مُسيطرةٌ لتضمنَ الاستفادةَ مِنَ النُّفوذِ السياسيِّ، فالدولة أثناءَ ممارستِها لِسلطتِها لا تعمَدُ إلى تحقيقِ العدالةِ العامةِ أو المَنفعةِ العامةِ، وإنَّما تعمل على تحقيقِ المصلحةِ لِلطبقةِ المُسيطرةِ في المُجتمعِ بأوسعِ معاني هذه المصلحة.
 

إنَّ الحُريةَ والمُساواةَ اللَّتَيْن حصَلْنا عليهما كانتا أولًا وقبْلَ كُلِّ شيءٍ حُريةً ومُساواةً لِمالِكِ الثروةِ.

والأمثلةُ الواقعيةُ على ذلك واضحةٌ لِلعيانِ، ولَعَلَّ في الحُروبِ التي خاضَتْها وتخوضُها الولاياتُ المُتحدةُ أصرَحَ دليلٍ على خُضوعِ السياسةِ الديمقراطيةِ لِضغطِ الطبقةِ المُحتكرة.

فالحَربُ العالَميةُ الأولى، وكذلك الحَربُ الثانيةُ، ثم حَربُ فيتنامَ كُلُّها دخَلَتها أمريكا دونَ أنْ يكونَ لها مصلحةٌ مباشرةٌ أو يتعرَّضَ أمْنُها القوميُّ لِلخطرِ، وبغَضِّ النظرِ عن دوافِعِها ونتائِجِها كان الشعبُ الأميركيُّ يرفضُ تدخُّلَ حُكومتِه في هذه الحَربِ، وكانتِ المُظاهراتُ الصاخبةُ تُنظَّمُ باستمرارٍ؛ احتجاجًا على ضَياعِ الأرواحِ والأموالِ فيما لا جَدْوى منه.

لكنَّ الطبقةَ الرأسماليةَ التي تملِكُ مصانعَ السلاحِ وشركاتِها الكُبرى التي تتولَّى تسويقَه تكمُنُ مصلحتُها في إشعالِ الحُروبِ واستمرارِها، والذي حصَلَ ويحصُلُ دومًا هو تنفيذُ رغبةِ هذه الفِئةِ القليلةِ، مقابلَ تعطيلِ رغباتِ الشعبِ بكاملِه.

ولمَّا حاوَلَ الرئيس كنيدي تقديمَ المصلحةِ القوميةِ، وعقدَ اتفاقيةِ وِفاقٍ دوليٍّ، تخلَّصتْ منه هذه الطبقةُ، فأزهَقتْ رُوحَه بعمليةِ اغتيالٍ غريبةٍ، لا تزالُ أسرارُها في طيِّ الكِتمانِ إلى الآنَ.
 

وليس هذا فحَسْبُ، بل إنَّ إمبراطورياتِ المالِ لَتملِكُ المُنظماتِ الإرهابيةَ والعِصاباتِ المُسلحةَ، إلى جانبِ عصاباتِ الرقيقِ الأبيضِ والرشاوي، بالإضافةِ إلى سيطرتِها على وسائلِ الإعلامِ، واستخدامِها في الفضائحِ السياسيةِ والماليةِ والأخلاقيةِ، وكُلُّها شِباكٌ تنصِبُها للاقتناصِ بالقوةِ تارةً، وبالإغراءِ تارةً أُخرى.

والحقيقةُ التي يجبُ ألَّا تَغرُبَ عن بالِنا في هذا الصددِ؛ هي أنَّ الطبقةَ الرأسماليةَ المُسيطرةَ ليست سوى مَجموعِ المُنظَّماتِ الرِّبَويةِ الاحتكاريةِ اليهوديةِ التي تخطِّطُ لِلسيطرةِ على العالَمِ أجمعِ؛ وَفْقَ أوامرِ التلمودِ والبروتوكولات.
 

4- تزييف الرأيِ العامِّ وتطويعُه:

هذا العَيبُ متلازمٌ والعَيبَ الذي قبْلَه؛ فوجودُ طبقةٍ ثريةٍ مُسيطرةٍ يجعل وُقوعَ وسائلِ الإعلامِ -المكونِ الرئيسيِّ للرأيِ العامِّ- في قبضتِها أمرًا طبيعيًّا، كما أنَّ خُضوعَ وسائلِ الإعلامِ لِفِئةٍ مُعيَّنةٍ يُتيحُ لها القدرةَ على تقويةِ مركزِها، ودعمِ نُفوذِها السياسيِّ والماليِّ عن طريقِ تكوينِ الرأيِ العامِّ أو تضليلِه، ممَّا يضمنُ فوزَ المُرشحين المُوالين لها، ونجاحَ مُخططاتِها، يقول ميشيل ستيورات في مَعرِضِ حديثِه عن مُشكلاتِ الديمقراطيةِ وعُيوبِها: "هناك نُفوذُ الثروةِ على تكوين الرأيِ العامِّ، فالديمقراطيةُ تتطلَّبُ فُرَصًا مُتكافئةً لِجميعِ الذين يُريدون الإقناعَ أو التعبيرَ عنِ الرأيِ، ولقد حاولَتِ الديمقراطيةُ توفيرَ ذلك، بإزالةِ العَقباتِ القانونيةِ على حُرِّيةِ الكلامِ والكتابة.
 

وثمة اتجاهٌ مُعاصرٌ يتمثَّلُ في مِلكيةِ فِئةٍ قليلةٍ لِلصحافةِ، كما أنَّ النفقاتِ الباهظةَ لإدارةِ صحيفةٍ تجعلُ دُخولَ مُلَّاكٍ جُدُدٍ لِمَيدانِ الصحافةِ أمرًا عَسيرًا، ثم إنَّ المصالحَ الصناعيةَ والتجاريةَ تؤثِّرُ على الإذاعةِ والتليفزيونِ، ومِنَ الجائزِ -مع تقَدُّمِ الدراساتِ الخاصةِ بعِلْمِ النَّفْسِ والدعايةِ والإعلامِ- أنْ تَزيدَ مَقدرةُ القِلَّةِ التي تستطيع أنْ تُنفِقَ بسخاءٍ لِلتحكُّم في وسائلِ الإعلامِ على تكييفِ عُقولِ الباقينَ ممَّا يَنالُ مِن حقِّ الشخصِ وقُدرتِه على التفكيرِ، وهو الغَرضُ الأساسيُّ للديمقراطيةِ، وهذه المُشكلةُ هي أكثرُ المشكلات خُطورةً؛ لِأنَّها ليست مِن مُخلَّفاتِ الماضي، وإنَّما هي قوةٌ بلوتوقراطيةٌ (سيطرةُ رَأْسِ المالِ) جديدةٌ ظهرَتْ حديثًا".
 

ويركز لاسكى اهتمامَه على الصحافةِ ودَوْرِها في تزييفِ الرأيِ العامِّ، فيقولُ: إنَّ جَمْعَ الأخبارِ ونَشرَها عملٌ لا يُراعى فيه العرضُ المَوضوعيُّ للوقائعِ، فالأخبارُ سُرعانَ ما تُصبح دعايةً عندما تتمكَّنُ مادَّتُها مِنَ التأثيرِ في السياسة، كما يميلُ مَضمونُ الأخبارِ في المُجتمعِ المُتفاوتِ إلى فائدةِ مَن بيَدِهم مَقاليدُ السلطةِ الاقتصادية.

ومُعظمُ الأفرادِ يعتمدون على الصُّحُفِ في استِقاءِ معلوماتِهم، وهذه الصُّحُفُ تعتمدُ في بقائِها على الإعلاناتِ التي تستطيعُ أنْ تحصُلَ عليها، كما أنَّ إصدارَ الصُّحُفِ عُمومًا باهظُ التكاليفِ، بحيث لا يستطيعُ أنْ يؤسسَها إلَّا الأغنياءُ فقط.

ونظرًا لِأنَّها تعتمدُ على المُعلِنِ، فيتحَتَّمُ عليها في الأغلبِ أنْ تنشُرَ تلك الأخبارَ والتعليقاتِ التي تُرضي أولئك.

وبذلك تكونُ النتيجةُ تحيُّزًا واضِحًا في نَقْلِ الأخبارِ لِلحوادثِ الصحيحةِ التي قد تُقلِقُ الطبقةَ الغنيةَ أو تُحرِجُها.
 

5- الفُتورُ في تجاوُبِ المُواطِنين مع العمليةِ الانتخابية:

تدَّعي الديمقراطيةُ أنَّها حُكْمُ الشعبِ، وأنَّ النُّوَّابَ وأعضاءَ الحكومةِ إنَّما يُختارون وَفْقًا لإرادةِ الشعبِ، وأنَّهم تبعًا لذلك يُمثِّلونَ الشعبَ تَمثيلًا صادقًا.

ولكنَّ هذه الدعوى تُناهضُها أُمورٌ عدَّةٌ، منها:

الدُّوَلُ التي تَقصُرُ حقَّ الانتخابِ على فئةٍ مُعينةٍ لِأسبابٍ عُنصريةٍ أو جِنسيةٍ أو طائفيةٍ، لا يمكنُ أنْ تُعَدَّ نِسبَتُها إلى الديمقراطيةِ صادقةً، كما يرى ستيورات، ويُمثِّلُ لذلك بسويسرا، التي لم تُعطِ لِلنساءِ حقَّ الانتخابِ، وبالدُّوَلِ التي لا يَحظى المُلوَّنون أوِ الطوائفُ الدينيةُ فيها بذلك، كبَعضِ الوِلاياتِ المُتحدةِ، وإيرلندة.

بالنسبةِ للدُّوَلِ التي لا تضعُ مِثلَ هذه الحواجزِ، بل تُحفِّزُ المُواطِنين بكُلِّ وسائلِ الإعلامِ على الإدلاءِ بأصواتِهم، يُلحَظُ بوضوحٍ عُزوفُ نِسبةٍ ليست قليلةً مِنَ الشعبِ عن الاشتراكِ في العمليةِ الانتخابيةِ، وتكونُ النتيجةُ أنَّ الذي يفوزُ في الانتخاباتِ -حِزبًا أو فَرْدًا- يفوزُ لِأنَّه لم يحصُلْ على أصواتِ أغلبيةِ الشعبِ، بل على أصواتِ أغلبيةِ المُشتركين فِعلًا في الاقتِراعِ.

فإذا أضَفْنا الرافضينَ للانتِخاباتِ إلى الذين دخلوها مُعارِضين، فسنجدُ في الأغلبِ أنَّ الأغلبيةَ الفائزةَ في الانتخاباتِ ليست سوى أقليةٍ بالنسبةِ لِمَجموعِ الشعبِ.

وبذلك لا يصِحُّ بحالٍ القولُ بأنَّ الحكومةَ تُمثِّلُ الشعبَ تَمثيلًا كاملًا أو صادقًا، وهذا العيبُ تعترفُ به الدُّوَلُ الديمقراطيةُ نَفْسُها، وليس مِن دولةٍ تستطيعُ نَفْيَه، وإنَّما تتباهى فيما بيْنَها بانخِفاضِ نسبةِ الرافضين، وتحقيقِ أرقامٍ قياسيةٍ في عددِ المُشترِكين.

وعلى سبيلِ المِثالِ يَذكُرُ مُؤلِّفو كِتابِ نظامِ الحُكْمِ والسياسةِ في الوِلاياتِ المُتَّحدةِ أنَّه لم تَزِدْ نِسبةُ الناخبين على (66%) مِن عددِ الأشخاصِ الذين بلغوا سِنَّ الانتخابِ، وفي بعضِ الأحيانِ تكونُ أقَلَّ مِن (55%)، وفي سنةِ (1956م) (60.5%) فقط.
 

6- القضاءُ على المَيزاتِ الفرديةِ:

على الرَّغمِ مِن أنَّ الديمقراطيةَ -في جَوهَرِها- نظامٌ فرديٌّ، كان وُجودُه أصلًا بمثابةِ رَدِّ فِعْلٍ لإهدارِ الحُقوقِ الفرديةِ في ظِلِّ النظامِ الإقطاعيِّ، فإنَّ الفردَ المُمتازَ في الديمقراطيةِ مَهضومُ الحَقِّ بالنسبةِ لِمُشارَكتِه في صياغةِ القراراتِ التي تتَّخِذُها الحكومة.

هذا العيبُ لَفَتَ نظرَ بعضِ النُّقادِ إلى آفةٍ تُعانى منها الديمقراطيةُ، ومنهم أليكسيس كاريل، فالدكتور كاريل يَعجَبُ كيف رَضِيَتِ البشريةُ أن تَرزَحَ تَحتَ نِيرِ نظامٍ يَقضي على المُميِّزاتِ الفرديةِ، ولا يُقيمُ لِلصَّفوةِ المُمتازةِ أيَّ وَزْنٍ في التأثيرِ على سَيْرِ الأحداثِ، عدا ما يتمتَّعُ به سائرُ الناسِ، ويقول:

هناك غلطةٌ أُخرى تُعْزى إلى اضطرابِ الآراءِ فيما يتعلَّقُ بالإنسانِ والفَردِ، وتلك هي المُساواةُ الديمقراطيةُ. إنَّ هذا المَذهبَ يتهاوَى الآنَ تَحتَ ضرباتِ تجارِبِ الشعوبِ، ومِن ثَمَّ فإنَّه ليس مِنَ الضروريِّ التمسُّكُ بزَيْفِه، إلَّا أنَّ نجاحَ الديمقراطيةِ قد جعَلَ عُمُرَها يطولُ إلى أن يدعوَ لِلدهشةِ، فكيف استطاعَتِ الإنسانيةُ أنْ تَقبَلَ مِثلَ هذا المَذهبِ لِمِثلِ هذه السنواتِ الطويلةِ؟!

إنَّ مَذهبَ الديمقراطيةِ لا يحفَلُ بتكوينِ أجسامِنا وشُعورِنا، إنَّه لا يصلُحُ لِلتَّطبيقِ على المادةِ الصُّلْبةِ، وهي الفَردُ.

صحيحٌ أنَّ الناسَ مُتساوون، ولكنَّ الأفرادَ ليسوا مُتساوين، فتَساوي حُقوقِهم وَهْمٌ مِنَ الأوهامِ، ومِن ثَمَّ يَجبُ ألَّا يتساوى ضَعيفُ العقلِ مع الرَّجُلِ العبقريِّ أمامَ القانونِ... ومِن خَطَلِ الرأيِ أنْ يُعطَوْا (أي: الأغبياء) قوةَ الانتخابِ نَفْسَها التي تُعْطى لِلأفرادِ مُكتَمَلي النُّموِّ، كذلك فإنَّ الجنسَيْنِ لا يتساويان، فإهمالُ انعدامِ المُساواةِ أمرٌ خطيرٌ جدًّا، لقد أسهَمَ مبدأُ الديمقراطيةِ في انهيارِ الحضارةِ بمعارضةِ نُموِّ الشخصِ المُمتازِ... ولمَّا كان مِنَ المُستحيلِ الارتفاعُ بالطبقاتِ الدُّنيا، فقد كانت الوسيلةُ الوحيدةُ لتحقيقِ المُساواةِ الديمقراطيةِ بيْنَ الناسِ هي الانخفاضَ بالجميعِ إلى المُستوى الأدنى، وهكذا اختَفَتِ الشخصية.

ويؤيِّدُ رأيَه هذا ما يقعُ فِعلًا في الدُّوَلِ الديمقراطيةِ عندَ الاقتراعِ على قضيةٍ اقتصاديةٍ مثلًا، حيث يكونُ نصيبُ عالِمِ الاقتصادِ الضليعِ صوتًا واحدًا فقط، وهو ما يحصُلُ عليه الفَردُ المُتوسطُ أو الجاهلُ، وفي الأغلبِ تكونُ النتيجةُ في غَيرِ صالحِ الأفرادِ المُمتازين؛ بسبب انسياقِ عامَّةِ الشعبِ وراءَ عواطِفِهم وخُضوعِهم للتضليلِ الدعائيِّ.
 

7- تعارُضُ المَصلحةِ الذاتيةِ للفَردِ والجماعةِ:

هذا العَيبُ يُلقي ضوءًا على المَحكِّ الذي يُظهِرُ حقيقةَ أيِّ نظامٍ أرضيٍّ بشريٍّ، فالديمقراطيةُ تدَّعي أنَّها النظامُ الأمثَلُ لِتحقيقِ المَصلحةِ الفرديةِ والجَماعيةِ، بإتاحَتِها الفُرصةَ لِلحصولِ عليها بطريقةٍ قانونية.

لكنَّ المُشكلةَ تَكمُنُ في تعارُضِ مَصلحةِ الفَردِ ذاتِه -وكذلك الجماعة- بَينَ اتخاذِ هذا القرارِ أو ضِدَّه، إذ هو لا يستطيعُ التوفيقَ بيْنَ مَطالِبِه الخاصةِ، كما أنَّه لا يستطيعُ التيقُّنَ مِن كَوْنِ نتيجةِ القرارِ ستُحقِّقُ هذه المَطالبَ أو تَنفيها.

ولنأخُذْ مسألةَ رَفْعِ الأُجورِ مثلًا لذلك:

تُطالِبُ نقاباتُ العُمَّالِ دائمًا برفعِ الأُجورِ -لكي تكسِبَ أصواتَهم- وهي إذ تُطالبُ بذلك تَعلمُ يقينًا أنَّ رفعَها يُحقِّقُ لِلعُمَّالِ مصلحةً مِن جهةٍ، لكنَّه يُفوِّتُها مِن جهةٍ أُخرى؛ لِأنَّه يكونُ مَصحوبًا بارتفاعِ الأسعار.
 

ومِن ناحيةٍ أُخرى يقول بيكر في سياق نَقْدِه لِأُسلوبِ التمثيلِ:

إنَّ الناسَ جَميعًا لهم مَصالحُ كثيرةٌ متعددةٌ، حيث لا يمكنُ لجانِبٍ منها أنْ يَنموَ ويطَّرِدَ إلَّا بسَنِّ تَشريعٍ يُحقِّقُ هذا الغَرضَ، ولكنَّ هذا التشريعَ يُسَنُّ على حِسابِ الآخرين، فالزُّرَّاعُ والعُمَّالُ مَثلًا هم المُنتجون والمُستَهلِكون في وَقتٍ معًا، فهم كمُنتِجين يتطَلَّعون إلى أسعارٍ أعلى مِن تلك التي يبيعون بها مُنتجاتِهم، ولكنَّهم كمُستَهلِكين يتطَلَّعون إلى أسعارٍ أقَلَّ مِن تلك التي يشتَرون بها حاجياتِهم.
 

هذه بَعضُ العُيوبِ التي لاحَظَها بعضُ الكُتَّابِ الديمقراطيين على الديمقراطيةِ في المَبدأِ والتطبيقِ، وقد حاوَلَ كاتبان فَرنسيانِ صياغَتَها في عباراتٍ موجزةٍ، فكان ممَّا استنتَجاه:

1- الصَّراعاتُ الدائمةُ بيْنَ الأحزابِ المُنقسِمةِ على بَعضِها.

2- الحكوماتُ التي لم يتجاوَزْ متوسِّطُ بقائِها في الحُكْمِ طيلةَ نِصْفِ قَرْنٍ ثمانيةَ أشهُرٍ.

3- المُنافساتُ الحمقاءُ بيْنَ المواطِنين.

4- عدمُ وجودِ سياسةٍ مُتجانِسةٍ لِمَدًى طويلٍ.

5- البُطءُ الشديدُ في تقدُّمِ مُستوى حياةِ الجماهيرِ، سياسةُ الإسكانِ، عدمُ كفايةِ التربيةِ المَدنيةِ والاقتصاديةِ والاجتماعية.
 

ومُلاحظةُ هذه المَساوئِ هي التي دفعَتْ بالكاتبِ الإنجليزيِّ أ. د لندساس إلى القولِ: "إنَّ هناك دائمًا هُوَّةً رهيبةً بيْنَ النظرياتِ الرَّفيعةِ عنِ الديمقراطيةِ التي نَقرأُ عنها في كُتُبِ النظرياتِ السياسيةِ، وبيْنَ وقائِعِ السياسةِ الفِعلية".

ومع أنَّ كُلَّ هذه الانتقاداتِ لم تَنفُذْ إلى لُبِّ المُشكلةِ وأساسِها المُتمثِّلِ في الحُكْمِ بغَيرِ ما أنزَلَ اللهُ، وعبادةِ الأهواءِ والشهواتِ مِن دُونِه؛ فإنَّها تُرشِدُ إلى فَداحةِ الخَطْبِ، وشَناعةِ الغَلطةِ التي وقعَ فيها المُجتمعُ الغربيُّ بتنكُّرِه لِلحَقِّ وتـمَرُّدِه على اللهِ استِكبارًا وغُرورًا".
 

وفي تصوُّري أنَّ هناكَ عددًا مِنَ العُلماءِ والمُفكِّرين الآخَرين -لم يذكُرْهم الدكتور سفر- مـمَّن اعتَرَض على النظامِ الديمقراطيِّ، وبيَّنوا عُيوبَه النظاميةَ والمُهيمنةَ.. ويَجِدُ القارئُ عددًا مِنَ النُّقودِ في كِتابِ (نَقضُ الجُذورِ الفكريةِ لِلديمقراطيةِ الغربيةِ, محمد أحمد مفتي)، ولو جُمعتْ في مؤلَّفٍ واحِدٍ لَكشفَتْ لنا الصورةَ بشكلٍ كبيرٍ.. وبيَّنتْ أنَّ المُبالغةَ في مَدحِ النظامِ الديمقراطيِّ بصورتِه الغربيةِ هو الذي يُمثِّلُ حالةَ الشذوذِ الفكريِّ!
 

ومِنَ المُتوقَّعِ أنْ يعتَرِضَ بَعضُ المُتحمِّسين لِلنظامِ الديمقراطيِّ الغربيِّ.. فيقولَ: إنْ كان بَعضُ المُفكِّرين الغربيِّين نَقَدوا الديمقراطيةَ، فهناك عَشَراتٌ غَيرُهم مَدَحوها، وأثنَوْا عليها!

وهذا صحيحٌ.. ولكنَّ هذا لا ينفعُ؛ لِأنَّ قضيةَ الحِوارِ مُنحصرةٌ في نَقْدِ مَن يُصوِّرُ الاتجاهَ الناقِدَ لِلديمقراطيةِ بأنَّه اتجاهٌ شاذٌّ مُخالِفٌ لِلضرورةِ العالَميةِ، ويُصوِّرُه بأنَّه ناتجٌ عن جَهْلٍ وسطحيةٍ في التفكيرِ.. فهذا التصويرُ ينكَشِفُ خَطَؤُه بإثباتِ أنَّ نَقْدَ الديمقراطيةِ ليس مَوقِفًا خاصًّا بالاتجاهِ السَّلفيِّ فقط.. بل هو مَوقِفٌ وَقَفَه كثيرٌ مِنَ المُفكِّرين الإسلاميِّين والغربيِّين, فلماذا يُصوَّرُ بأنَّه مَوقِفٌ شاذٌّ سطحيٌّ بسيط؟!